بحـث
المواضيع الأخيرة
مارس 2023
الإثنين | الثلاثاء | الأربعاء | الخميس | الجمعة | السبت | الأحد |
---|---|---|---|---|---|---|
1 | 2 | 3 | 4 | 5 | ||
6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 |
13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 |
20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 |
27 | 28 | 29 | 30 | 31 |
المشاركات التي حصلت على أكثر ردود أفعال في الشهر
علاقة السلطة بالثروة في فكر إبن خلدون
صفحة 1 من اصل 1
علاقة السلطة بالثروة في فكر إبن خلدون
تقدّم معظم الدراسات الخلدونية صورة لعلاقة السلطة بالثروة مرسومة بخطوطٍ قاتمة ألوانها الثروة المتحولة إلى الترف مُفسد الأخلاق لدى صاحب الملك وحاشيته ومن أبقاهم من أهل عصبيته فتؤول بالدولة إلى الهرم ثم الانقراض. وتبقى عوامل الدعم التي للثروة في بناء وازدهار الدولة، في تلك الأبحاث، ضمن إطار الملامح العريضة. ولما كان للتوازي بين الدورين دور البناء ودور الدمار من أهمية في الفكر الخلدوني أي كون الثروة من طبيعة الحكم وأنها هي التي تقود إلى خرابه أيضًا، فإن لازدواجيتها أهميةً تؤكد صحة وواقعية نظريته من أن الدولة شبيهةٌ بالكائن الحي وأن لها عمرًا يقدّر بمائة وأربعٍ وعشرين سنة، ثم إن هذا التوازي يبقيه على انسجامٍ مع تحيّزه للمنطق الأرسطي في أن لكل معلولٍ علّة، فللازدهار علة وللإنهيار علةٌ أيضًا.
وقد اكتفى البعض بالنظر إلى الثروة والترف على أنهما علّة فساد أخلاق الحاكم وحاشيته وما ينجم عن ذلك من خراب. غير أن هذا القول لا يراعي أمرين أساسيين في النظرية الخلدونية: أولهما أن السلطة لا تقوم على الأخلاق، بل على القوة والقهر، وثانيهما أن القيم الأخلاقية وحتى الدينية ضروريةٌ في الدولة في غير إطار ممارسة السلطة. والمثل على ذلك كلامه عن الظلم إذ ينظر إليه كأحد عوامل هرم الدولة أولاً وآخرًا. ولا شك في أن حضور الدين في مرحلة الاستيلاء على الملك هو –إلى جانب العصبية- عماد "المطالبة وجمع القلوب وتأليفها معونةً من الله في إقامة دينه" وهو "يزيد الدولة قوةً على قوة العصبية التي كانت من عددها" (مقدمة ابن خلدون، دار العودة، بيروت، 1988، ص 124) لأن "الدعوة من غير عصبيةٍ لا تتم" (ص 125). لكن ابن خلدون لا يأتي بالذّم واللوم على فساد الأخلاق من الناحية الخلقية والدينية بقدر ما يعتبره واقعًا بالحاكم إلى إهمال شؤون الحكم وظلم رعيته.
وفي عملية تأطير هذا البحث نجد أن بعض الشراح يذهب إلى تفسير الكثير من نصوص المقدّمة الأساسية انطلاقًا من الفلسفة اليونانية والعربية الكلاسيكية على الرغم من أن ابن خلدون كان قد نفى الفلسفة من دائرة العلوم. ثم إن منطلقًا كهذا –ومنه الكلام عن الهيولى والصورة باعتبار الدولة المادة والحكم صورتها- لا يفي التحليل والفهم الخلدوني حقه. فالعلاقات في الدولة، ومنها السلطة والثروة، هي اجتماعية بطبيعتها ولا تُفهم خارج تفاعل جميع أطرافها على أساس واقعٍ اقتصاديٍ وسياسي فيه الحاكم والمحكوم والمنتج والمُسرف، فالخلل الذي يؤدي إلى الدمار يقع داخل هذه العلاقات.
يلاحظ صاحب المقدمة إزدواجيةً في دور المؤسسة وادوات الحكم في البناء والتدمير أيضًا، وتُفهمه هذه الازدواجية طبيعة الحكم الظاهرة في العلاقة بين السلطة والثروة. وهو يُكثر من الأمثلة على ذلك في تاريخ الدول: الفرس، بنو أمية، العباسيون والترك... إلخ ليستنتج أن المؤسسات وأدواتها تعمل بدايةً على هدم العصبية التي قام عليها الحكم إلى أن يستتب الأمر للحاكم، ثم تنقلب عليه شيئًا فشيئًا فتحجُرُه وتعزله عن التفاعل المباشر مع رعاياه وولاته دافعةً به إلى التمتع بترف الحكم وثماره؛ أما هدفها فهو إقامة عصبيةٍ جديدة تقضي على الأولى وتدّمر من كانت تدين لها بوجودها. فهل هذا من طبيعة العصبية، أم أن الثروة هي عماد استمرارية السلطة فتذهب هذه بذهاب تلك؟
يطرح هذا التساؤل قضية أساسية على الفكر الخلدوني تتعلق بمفهوم وطبيعة العصبية، وهي، وإن لم تكن من صلب موضوع بحثنا الآن، إلا أن الإشارة إليها هنا ضرورية لفهم كثيرٍ من النصوص فهمًا يتفق مع المنظومة الفكرية بأكملها. فمن يقول بالعصبية رباطًا قائمًا على قرابة الدم إنما يلغي دور المؤسسات الضرورية لقيام الحكم ولا يعطي الاهتمام الكافي لما يسعى إليه الانفراد بالحكم الذي يحمل الحاكم على القضاء على بني عصبيته أو إبعادهم عن منافسته. فهل يصح، والحالة هذه، فهم العصبية على أساسٍ عرقي؟ يُضاف إلى ذلك أن تاريخ الممالك يُظهر حرص السلطان على الاستعانة بالغرباء، فيكونون من صنائعه. من هنا كان لا بد من فهم العصبية على أنها تضامن، أي اجتماعية، أساسها المصلحة والولاء، بدليل أنها هي التي تُنشئ تضامنًا نقيضًا لولي نعمتها. (غانم هنا: الفلسفة الاجتماعية، دمشق 1989، ص 72 وما يتبع).
والثروة أيضًا من طبيعةٍ اجتماعية كونها نتاج فعل الإنسان على الطبيعة، فتأتي عنه الخيرات المادية، أو نتاج تفاعل البشر مع بعضهم البعض كما هي الحال في التجارة والوظائف، أو نتاج فعلهم على أنفسهم الظاهر في الناتج العلمي والأدبي...إلخ وحينما يعتبر ابن خلدون أن الثروة تغذّي السلطة في كافة أطوارها إلى أن تصبح ترفًا، وهذا، كما يقول، من طبيعة الملك، فإنما يشير بوضوحٍ إلى اجتماعية الثروة كعامل بناءٍ ودمارٍ أيضًا. وما لهذه الثروة من قيمة إلا في العلاقات الاجتماعية ومنها علاقة السلطة. ولعل ابن خلدون أول من نظر إلى اجتماعية الثروة من بين القدماء في أثارها على السلطة السياسية بغير هدف العبرة والتبصر موضّحًا أن لكل دولة حدودًا زمنية من الحياة يضعها الترف حيث لا تكون نتيجة الثروات أو الحروب.
تقوم الدولة بالقبيلة والعصبية وبالدعوة الدينية وتستولي على عددٍ محدد من الممالك والأوطان. وللسلطة فيها طبيعةٌ خاصة مقوماتها الانفراد بالمجد والثروة ثم الدّعة والسكون إلى أن تتحول الثروة إلى ترف، إلى المرض الذي يدبّ في حسم الدولة، ويتم هذا كله على مراحل سمّاها أطوارًا يعقب أحدها الآخر وهي بمجموعها خمسة أطوار: الأول طور الظفر والاستيلاء على الملك، الثاني طور الاستبداد، الثالث طور الفراغ والدّعة، والرابع طور القنوع والمسالمة. أما الخامس والأخير فهو طور الإسراف والتبذير المؤدي إلى الشيخوخة فالانقراض (الفصل الثالث من الكتاب الأول من المقدمة، ص 121 وما يتبع).
أمامنا إذًا تسلسل حقيقي يثبته ويوثقه تاريخ الممالك وترتبط حلقاته ارتباطًا وثيقًا ببعضها البعض حيث تشكّل الثروة اللحمة فيما بينها. إنها من "توابع الملك ومقدار ما يستولي عليه أهل الدولة" (137) في الحلقة الأولى، هي "النعمة" في المرحلة الثانية. أما الحلقة الثالثة فهي من توابع النعمة وهي هنا "الثروة" بالمعنى الدقيق؛ وهي التي تتحول إلى ترفٍ في الحلقة الرابعة كونها من توابع "النعمة والثروة" فتصبح "حضارةً" وهذه من توابع الترف. ويعرّفها بالقول: "إنما هي تفنن في الترف وإحكام الصنائع في وجوه ومذاهبه من المطابخ والملابس والمباني والفرش والأبنية وسائر عوائد المنزل وأحواله" (136). ولا يبخل ابن خلدون في ذكر شواهد على ذلك من أعراس المأمون وولائم الحجاج وأعطية بني أمية والعبيديين وملوك الطوائف. إذًا تلازم الثروة الملك بكافة مراحله كونها من توابعه. لا بل إن الترف نفسه إنما "يزيد الدولة في أولها قوةً إلى قوتها" (137) وذلك "بكثرة التناسل والولد والعمومية. لقد كثرت العصابة واستكثروا أيضًا من الموالي والصنائع (...) واعلم أن سببه الرفاه والنعيم" (138). إذًا كان من الطبيعي أن تبقى الحاشية وفيةً لولي نعمتها في مرحلتي البداية والاستبداد فلا تتآمر عليه أو تقوم بوجهه. أما إذا شعر بانقلابها عليه ومحاولتها إضعافه وإغراقه في عزلةٍ من اللهو والمتع، فقد يحدث " أن يرجع الملك إلى نصابه ويضرب على أيدي المتغلبين عليه إما بقتلٍ أو برفعٍ عن الرتبة فقط، إلا أن ذلك في النادر الأقل، لأن الدولة إذا أخذت في تغلّب الوزراء والأولياء استمر لها ذلك وقلّ أن تخرج عنه" (147). ثم إن الثروة التي كانت قوةً للملك في البداية قد تكون قوةً له أيضًا في أول مراحل الترف حينما يُدرك أطماع الحاشية والوزراء فيضرب بقسوةٍ وبطش. لكنه لن ينجح في إحياء عصبية جديدة لأنه قضى على الأولى في سبيل الانفراد بالحكم، ولأن أبناءه يخذولونه، فهم الذين "نسوا عهد الرجولة وألفوا أخلاق الدايات والآظار وربوا عليها فلا ينزعون إلى رئاسةٍ ولا يعرفون استبدادًا (...) إنما همهم في القنوع بالأبهة والتفنن في اللذات وأنواع الترف (الموضع نفسه). ولهذين السببين "يكون التغلّب للموالي والمصطنعين عند استبداد عشير الملك على قومهم وانفراده به دونهم، وهو عارض للدولة ضروري" (الموضع نفسه).
كانت الثروة عماد بناء أركان الدولة واستمراريتها بدواوينها وأجهزتها وغير ذلك. وبديهي هنا أن يكون الجيش أحد تلك الأركان خاصةً في الأطوار الثلاثة الأولى من عمرها. فالجيوش ضروريةٌ للغلبة على المدافع والممانع في عملية الاستيلاء على الملك وانتزاعه من أيدي الدولة السالفة. وتبقى ضرورية للدفاع عن الحوزة والحماية. كما أنه لا غنى عنها في طور الاستبداد "لجدع أنوف أهل عصبية" الملك (138) وصدّهم عن موارده وردّهم على أعقابهم. إنه يقاوم الأقارب "فيركب صعبًا من الأمر" (139) فهم أكثر من الأباعد في هذا الطور. ويبقى صاحب السلطان بحاجة إلى العسكر حتى في طور الفراغ والدّعة فيدرّ عليهم بالأرزاق "وينفقهم في أُعطياتهم لكل هلال حتى يظهر ذلك عليهم في ملابسهم وشكتهم وشاراتهم يوم الزينة فيباهي بهم الدول المسالمة ويرهب الدول المحاربة" (الموضع نفسه). وحينما تصل الدولة إلى الطور الأخير طور الإسراف يُضيّع "من جنده بما أنفق من أُعطياتهم في شهواته وحجب عنهم وجه مباشرته وتفقّده" (الموضع نفسه) فيتمكّن المنافسون والمتطلعون إلى السلطة من كسب ولائهم.
إن الثروة التي أُقيمت الدولة على أساسها ثم تحولت إلى ترف ودكّت أسس الحكم إنما تكشف عن طبيعةٍ خاصةٍ بها ليس من المبرر أن تُنسب إلى نظريات اقتصادية جديدة كي تظهر فعلها الحاضر في المجتمع وقدرتها على قلب الأحوال للوصول إلى القول بالقاعدة المادية للسلطة السياسية. فالثروة-المال تخضع لتجاذبٍ بين السلطة السياسية والاقتصادية يحاول فيه كل طرفٍ إخضاع الآخر لسيادته. نعم، لم يتعرض ابن خلدون إلى مظاهر تغلّب السلطة الاقتصادية حينما تصبح قوة استبدادٍ تهيمن على المجتمع وتسيّره بحسب مقضتياتها لا بل تدفع به وتتيح له استباحة دولٍ أخرى، لكنه في وصفه لتهاوي سلطة الثروة-المال أمام استبداد صاحب السلطان يظهر بوضوحٍ ما للاقتصاد من أهمية والسلطة على "عمر" الدولة وقد أدّى دماره إلى نهايتها. وسوف نتعرض فيما يلي إلى بعض تلك المظاهر.
سيداتي، سادتي،
لن أقف طويلاً أمام تفاصيل العلاقة بين السلطة والثروة بعد تحوّل هذه إلى ترف؛ وكلنا مطّلع على نصوص المقدمة الكثيرة حول هذا الموضوع كما أن معظم الدراسات ذهبت إلى البحث فيه واستخلصت منه العبر والتوصيات، لذا أكتفي بذكر مفاصل أساسية في عملية تداعي الدولة بسبب الثروة-الترف.
أول مفصل هو "اصطناع الرجال واتخاذ الموالي والصنائع والاستكثار من ذلك" (138). كان ذلك ضروريًا في طور نشأة الدولة واستتبابها. وقد اقتضى التوسعة عليهم وعلى الحاشية بالمال والجاه في طور الفراغ والدّعة؛ أما في الطور الخامس فإن صاحب السلطة كريم على بطانته، يقلدهم عظيمات الأمور، يستفسد لكبار الأولياء من قومه وصنائع سلفه فيضطغنون عليه ويتخاذلون عن نصرته (139). فما سر هذا الانقلاب؟ كان هؤلاء المصنطعون يستميتون دونه في مدافعة قومه عن الأمر (144). أما بعد فساد العصبية وبعد أن استظهر العباس مثلاً بالعرب ثم "صارت الدعوة للانفراد بالمجد وكبح العرب عن التطاول للولايات، صارت الوزارة للعجم والصنائع من البرامكة وغيرهم..." (145)، فهل لعلاقة الثروة-الترف بما يحدث لسلطة الدولة دور في ذلك؟
يبدو لأول وهلة أن ابن خلدون يعيد ذلك إلى فقدان العصبية "بضياع التناصر في ذوي الأرحام" والمخالطة بالرق أو الحلف فينزل منزلة العصبية لأن " أمر النسب وإن كان طبيعيًا فإنما هو وهمي" (145) وعندئذ يقوم الالتحام "بالعشرة والمدافعة وطول الممارسة والصحبة بالربى والرضاع وسائر أحوال الموت والحياة" (الموضع نفسه). لكنه يقيم فرقًا جذريًا بين الاصطناع قبل الملك وبعده ليؤكد على عنصر اللحمة والقرابة بين المصطنع وصاحب الملك في فترة ما قبل حصول الرياسة (146) بينما جلّ من يصطنعهم بعد الرئاسة، خاصةً في دور الترف، هم من الأجانب الذين يكونون في مهاوي الضعة الذين لا يُبنى لهم مجدٌ كما بناه المصطنعون قبل الدولة (الموضع نفسه). يستولي هؤلاء على مقاليد الحكم دون أن يشاركوا السلطان في اللقب الخاص بالملك (147) لأنهم لا يحاولون في استبدادهم انتزاع الملك ظاهرًا، بل "انتزاع ثمراته من الأمر والنهي والحلّ والعقد..." (الموضع نفسه) موهمين أهل الدولة أنهم يتصرفون عن سلطانه متجافين عن سمات الملك ليبعدوا أنفسهم عن التهمة بذلك فيتسترون بالاستبداد به بالحجاب الذي ضربه السلطان خوفًا من أن يُكشف أمرهم لأهل العصبية فيهلكون. وهكذا يُستبدل الحكم خفيةً وبحكمةٍ من قبل المصطنعين. إن الانقلاب هنا يقع بالدرجة الأولى بسبب طبائع المصطنعين وخبثهم؛ فهم غرباء ولا دافع لولائهم سوى النعمة والتحكّم بثروة الدولة.
يقع المفصل الثاني في مقومات الحكم الرئيسية وهي أن "الملك على الحقيقة لمن يستعبد الرعية ويجبي الأموال ويبعث البعوث ويحمي الثغور ولا تكون فوق يده يدٌ قاهرة. هذا معنى الملك وحقيقته" (148). إن جميع هذه العناصر تُصاب بالوهن والشلل في طور الترف. وقد سبقت الإشارة إلى العسكر وما يحدث لهم في الطور الثالث من عمر الدولة مثالاً على ذلك. أما هنا فتشحُّ مقتضيات الترف عن الجيوش لينقلب ما كان حافزًا على الموالاة إلى نقيضه بالانتقال إلى من يؤمِّن للعسكر أرزاقهم وأُعطياتهم.
ثم إن الترف يُحدث خللاً مريعًا في جباية الأموال، وهذا هو المفصل الثالث، حينما تُستجّد حاجات وتتكاثر فتدفع صاحب الملك إلى الزيادة في الجباية لينفقها في خاصته وكثرة عطائه، ولاتساع وتضخم "ما تحتاج إليه الحامية من عطاءات والسلطان من النفقة، فيزيد من مقدار الوظائف والوزائع أولاً... ثم يزيد الخراج والحاجات" (222). هنا تُلفت النظر ملاحظة ابن خلدون أن "الجباية تقلّ وتكثر العوائد وتكثر بكثرتها أرزاق الجند وعطاؤهم" (الموضع نفسه). أليس لأنهم هم كسبة الأرزاق والدخل الثابت؟. وحينما يتراجع دخل الدولة إلى هذا الحد ويعمّ الكساد يتجه صاحب الدولة نحو الأسواق ويستحدث أنواعًا من الجباية ويغالي في زيادتها "فتكسد الأسواق لفساد الآمال ويؤذن ذلك باختلال العمران" (الموضع نفسه). كما أن ضيق الجباية يستدعي زيادة المكوث على بياعات الرعايا وأسواقهم وعلى تعدد تسمياتها والتبديل فيها ثم مقاسمة الجباة ما يختلسونه أو استحداث التجارة أو الفلاحة للسلطان ومزاحمة التجار الذي يلجؤون إلى التحايل على الجباية معتبرين أن حصة السلطان جزء منها. ويذهب السلطان إلى حد فرض أسعار البضائع ليشتريها بالرخص فينام التجار على بضائعهم وتبقى جامدةً ويخسر الإداريون مكسبهم ومعاشهم أو يُضطرون إلى بيع سلعهم على كساد.
وبما أن معظم الجباية هي من الفلاحين والتجار وقد وقعت عليهم تلك التقلبات، فإن الجباية تذهب جملةً أو تشحّ. ولا يهمل ابن خلدون قيمة ومصير التجار بالبضائع المستوردة من الخارج التي يستولي عليها الأمراء المتسلحون للتجارة والمتنفذون بالبلد فهم يفرضون الأسعار على مالكيها ويبيعونها بثمنٍ يحددونه هم أيضًا. وعندما يرى السلطان ما تجنيه هذه التجارة من أرباح "يضرب معهم بسهمٍ لنفسه" (224).
لن يتسع الوقت لإثارة مجمل طرق تسرب الخراب إلى الدولة والعمران بسبب الثروة-الترف إلا أنه لا بد من ذكر مفصلٍ رابع هو الظلم. سبقت الإشارة إلى الناحية الأخلاقية في هذا الباب. غير أن أقسى مظاهر الظلم تظهر في العدوان على الناس في أموالهم لأنه يدمّر آمالهم في تحصيلها واكتسابها "لما يرونه حينئذ من أن غايتها ومصيرها انتهابها من أيديهم" (237). عندئذ لن يسعوا وراء اكتسابها، فتلحق من جرّاء ذلك الأضرار بالعمران ونفاق الأسواق فيعم الكساد ويهجر الناس إلى الأرياف طلبًا للرزق وينتقل سكان الحضر وهذا ما يلحق الأمصار بالخراب بسبب اختلال نسبة السكان مما يؤدي إلى وهن الدولة بأسرها فينقضّ عليها أعداؤها ويستولون عليها. ثم يرسم ابن خلدون للظلم حدودًا بقوله: "لا تحسبن الظلم إنما هو أخذ المال من يد مالكه من غير عوض ولا سبب، كما هو المشهور، بل الظلم أعم من ذلك. وكل من أخذ ملك أحدٍ أو غصبه في عمله أو طالبه بغير حق أو فرض عليه حقًا لم يفرضه الشرع فقد ظلمه. فجباة الأموال بغير حقها ظلمة والمعتدون عليه ظلمة والمنتهبون لها ظلمة والمانعون لحقوق الناس ظلمة وغصاب الأملاك على العموم ظلمة. ووبال ذلك كله عائد على الدولة بخراب العمران الذي هو مادتها لإذهابه الآمال من أهله" (228).
ثمّة سؤالٌ يطرح نفسه: هل يمكن إصلاح ما دبّ فيه الهرم؟ يأتي جواب ابن خلدون قاطعًا: "إن الهرم إذا نزل بالدولة لا يرتفع" (232). فمهما حاول حاكم الارتفاع بوضع دولته الهرمة وإصلاحها فإن محاولاته ستبوء حتمًا بالفشل ويضيف ابن خلدون قائلاً: "ربما يحدث عن آخر الدولة قوةٌ تُوهم أن الهرم قد ارتفع عنها ويومض ذبالها إماضة الخمود كما يقع في الذبال المشتعل، فإنه عند مقاربة انطفائه يومض إماضةً توهم أنها اشتعال وهي انطفاء" (233).
سيداتي، سادتي،
أختم مقاربتي لعلاقة السلطة بالثروة بعد ما ظهر لها من أهمية في البناء والخراب بتلميح إلى معاصرة فكر ابن خلدون، لم يكن ليخطر ببالي لولا الأحداث المؤلمة الجارية. يقول صاحب المقدمة: إذا كثرت المعاطب صار كثيرون من أهل الدولة "ينزعون إلى الفرار عن الرتب والتخلص من ربقة السلطان بما حصل في أيديهم من مال الدولة إلى قطر آخر. ويرون أنه أهنأ لهم وأسلم في إنفاقه وحصول ثمرته؛ وهو من الأغلاط الفاحشة والأوهام المفسدة لحالهم ودنياهم. واعلم أن الخلاص من ذلك بعد الحصول فيه عسيرٌ ممتنع . فإن صاحب هذا الغرض إذا كان هو الملك فلا تمكّنه الرعية من ذلك طرفة عينٍ ولا أهل العصبية... أما إذا كان... من بطانة السلطان وحاشيته وأهل الرتب في دولته فقلّ أن يُخلي بينه وبين ذلك... فلا يسمحون بحل ربقته من الخدمة ضنًّا بأسرارهم وأحوالهم أن يطّلع عليها أحد وغيرةً من خدمته لسواهم... ثم إذا توهّمنا أنه خلص بذلك المال إلى قطرٍ آخر، وهو في النادر الأقل، فتمتد إليه أعين الملوك بذلك القطر وينتزعونه بالإرهاب والتخويف تعريضًا أو بالقهر ظاهرًا... وإن اتفق لهم الخلاص بأنفسهم وما يتوهمونه بالحاجة فغلطٌ ووهم"(225-226).مداخلة للدكتور غانم هنا
في ندوة بيت الحكمة المنظمة بتونس
18/13 مارس 2006

» ما هي السلطة؟
» مشاهد سلطة الدين، ودين السلطة
» مشاهد سلطة الدين، ودين السلطة
» مفهوم المواطنة وإملاءات السلطة
» دراسة:التفتيش القضائي وإستقلال القضاء أي علاقة ؟(1/3)
» مشاهد سلطة الدين، ودين السلطة
» مشاهد سلطة الدين، ودين السلطة
» مفهوم المواطنة وإملاءات السلطة
» دراسة:التفتيش القضائي وإستقلال القضاء أي علاقة ؟(1/3)
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
» الحق في الحصول على المعلومات
» نحو تحول رقمي مسؤول و مدمج
» إجراءات كتابة الضبط برئاسة المحكمة
» التنظيم القضائي
» طرق إقامة الدعوى العمومية من طرف النيابة العامة على ضوء قانون المسطرة الجنائية
» التبليغ في قانون المسطرة المدنية
» الإستراتيجية الوطنية لمجتمع المعلومات و الإقتصاد الرقمي
» أسئلة وأجوبة حول المساعدة القضائية بالمغرب